يقول الروائي هاروكي في روايته كافكا على الشاطئ: “هناك نوع من الكمال لا يمكن إدراكه سوى عبر التراكم غير المحدود للنقائص”. السعي وراء المثالية أو الكمال من الرغبات الكثيرة التي تُشغل الكثير من الناس، وقد يعتبر البعض أنّ وهم المثالية بمثابة مرض يسعى إليه الناس، دون أن يُدركوا خطورة هذه الرغبة التي تجعلهم في قلقٍ دائم للوصول إلى المثالية. الشخصية المثالية تختلف في نظر الأشخاص، البعض يراها في المظهر الخارجي والبعض يراها في المنصب الوظيفي والبعض يراها في تحقيقه النجاح الدراسي. وعلى الرغم من أنّ السعي للكمال والمثالية قد يكون شيئًا إيجابيًا ودافعًا للوصول إلى تحقيق الأهداف، يرتبطٌ عادة بالإلهام والتشجيع، فإنه يحمل بعض الجوانب السلبية في بعض الأحيان، خاصة عندما تتم تغذيته بتوقعات لا تمت للواقع بصلة. وهذا قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، لهذا من المهم معرفة إيجابيات وسلبيات السعي وراء المثالية
سبب السعي وراء المثالية :
يُعرف السعي وراء المثالية بأنه مزيج من المعايير الشخصية العالية التي يسعى الشخص لتحقيقها بشكلٍ مبالغ فيه للوصول إلى الشخصية المثالية، ويُلزم نفسه بالعديد من التقييمات الذاتية التي تدعوه للوصول إلى الكمال بعيدًا عن أي نقد محتمل. السعي وراء المثالية يزداد يومًا بعد يوم، وذلك بسبب زيادة الضغوط الاجتماعية على الناس، فالآباء يرغبون في أن يكون أبناؤهم مثاليين ومتفوقين في جميع مجالات حياتهم، فيُمارسون عليهم ضغطًا كبيرًا كي يسعون إلى الكمال والمثالية، وكذلك المعلمون والمديرون وغيرهم. وأكثر فئة معرضة للضغوطات هذه هي فئة الشباب الذين يزداد الضغط الاجتماعي والثقافي عليهم ليكونوا ناجحين اقتصاديًا وعلميًا وعمليًا، وقد أوضحت الدراسات وجود ثلاث أنواع من المثالية وهي:
-
-
المثالية ذاتية المنحى: هي المثالية التي يسعى لها الشخص من تلقاء نفسه نتيجة صراعات داخلية يعيشها مع رغبته في تحقيق الأفضل بالنسبة له.
-
المثالية المنصوص عليها اجتماعيًا: يكون السعي للمثالية في هذه الحالة ناتجًا عن ضغوطات يمارسها المجتمع على الأفراد، من خلال احترامهم للشخص الذي يحقق أكبر قدر من الطموحات، واعتبارهم بأنه شخص مثالي.
-
-
المثالية الموجهة: يكون السعي في هذا النوع موجهًا نحو هدفٍ معين، والعمل لأجله بالدرجة الأولى، كاعتبار أنّ المثالية تكون بدراسة تخصص معين مثلًا أو تقلّد منصب ما.
عواقب السعي وراء المثالية :
السعي وراء الكمال والمثالية يعطي آثارًا جانبية سامة وقد يكون لها عواقب وخيمة على الشباب خاصة. فتجعلهم غارقين في موجة متصاعدة من السعي نحو المثالية والبحث عن الكمال في كلّ شيء؛ ومن هذه العواقب:
١. تجعل الشخص حساسًا تجاه النقد من قبل أفراد المجتمع؛ وهذا يولد خوفََا داخليََا دائمََا.
٢. تجعل الشخص مفتقدًا للثقة بنفسه وبالظروف من حوله لأنه يتوقع الكثير من نفسه ومن الآخرين.
٣. يسبب ابتلاء صاحبها بالشك الذاتي تجاه قدرته في الأداء؛ خاصة إذا تعرض لأي إخفاق أو فشل.
٤. يجعل صاحبه يعاني من التوتر ومن الاكتئاب المرتبط بالفشل وقد يميل بعضهم للأفكار الانتحارية، خاصة أنّ تصورات البعض وتوقعاتهم عن أنفسهم أثناء سعيهم للكمال والمثالية تكون أحيانًا مفرطة وغير قابلة للسيطرة، مما يجعلها معرضة للفشل.
٥. يسبب صدمة عاطفية في آغلب الأحيان، لهذا يمكن تصنيف السعي وراء المثالية بأنه من المشاكل الشخصية والاجتماعية التي لا بدّ وأن يكون لها حل كي لا يُصاب الشخص بمرض المثالية والكمال.
علاج الرغبة المدمرة في المثالية :
كي نستطيع علاج انبهارنا بالمثالية يجب أولًا أن نعي جميعًا أنّ السعي للمثالية ليس شيئًا سيئًا في المطلق، وقد يُساعد على الإنجاز ويكون دافعًا للوصول إلى مراتب عليا. لكن المبالغة فيه قد تُحوًله إلى وباء، لهذا فإن أفضل الحلول للتعامل مع السعي نحوالشخصية المثالية هو الاعتدال فيه، وذلك عن طريق توجيه الآباء أبنائهم للاعتدال بأن يكفوا عن الانتقاد والتحكم الدائمين، وفي الوقت نفسه تقدير إنجازاتهم بشكلٍ أفضل واعتبارها مثالية حتى لو تخللتها أخطاء بسيطة يُمكن التجاوز عنها للتخلص من وهم المثالية الذي يُطارد عقول كثيرين؛ وإذا لم نستطع التخلص من السعي إلى المثالية رغم كل المحاولات فيفضل مراجعة معالج نفسي وطلب المشورة منه كي يرشدنا للطريقة المثلى في التخلص من عقدة السعي نحو الكمال والمثالية.
يقول ويليس كارير: “من الكمال أن تدرك نقصك، ومن النقص أن تظن بأنك كامل”! لهذا فإنّ المثالية والكمال ما هي إلا وجهات نظر من الممكن أن يُدركها الإنسان دون أن يُهلك نفسه في مقارنات كثيرة مع الآخرين وحياتهم، فالكمال والمثالية ليس لهما شروطًا محددة وثابتة، بل هما من الأشياء القابلة للتغيير والتجدد. الشخص العاقل يتصرف بطريقة أقرب للمثالية دون أن يضع نفسه تحت ضغوطات يفرضها عليه المجتمع والآخرون أو يفرضها على نفسه بطريقة مؤذية .
أخصائي نفسي
الولاء مكي