الحديث عن ضرورة أن يتحلى المرء بقدر من “التعاطف مع الذات”، نصيحة ذات طابع تقليدي بعض الشيء،
لكن من الضروري، حتى على المتشائمين والمتشككين في صحة نهج مثل هذا، أن يولوا اهتمامهم به، خاصة إذا كانوا يرغبون في أن يكتسبوا القدرة على المرونة والتكيف والصمود أمام المشكلات والأزمات.
يرى الكثيرون أن من الطبيعي أن نقسوا على أنفسنا، ونحن نُقيّم أفعالنا وتصرفاتنا. بل إن منّا من يفخر بأنه يتعامل مع نفسه بصرامة، ويعتبر أن ذلك يُشكِّل مؤشرا على سعيه، لأن يصبح على أفضل ما يكون، وعزمه على تحقيق هذا الهدف كذلك .
غير أن عددا كبيرا من الأبحاث النفسية العلمية، يُظهر أن توجيه المرء انتقادات لنفسه، يأتي بنتائج عكسية بشدة. فمثل هذه الانتقادات، تفضي إلى زيادة مستوى الشعور بالتعاسة والتوتر من جهة، كما قد تدفع المرء للنزوع إلى المماطلة والتسويف بشكل أكبر، وتجعله أقل قدرة على تحقيق أهدافه في المستقبل، من جهة أخرى.
كن “تقدير الذات” يترافق لسوء الحظ مع شعور ما بالمنافسة مع الآخرين، وهو ما قد يؤدي بسهولة، إلى أن يصبح للمرء شخصية نرجسية هشة، يمكن أن تنهار جراء ارتكابه أي خطأ محتمل.
إن الإحساس بـ “تقدير الذات”، رهن بـ “تحقيق النجاح.. لذا فهو ليس بالأمر المستقر للغاية، إذ يمكنك أن تشعر به في يوم جيد بالنسبة لك، وتفقده في يوم آخر سيء”. يُضاف إلى ذلك، أن الكثيرين ممن يشعرون بـ “تقدير كبير للذات”، يصبحون عدوانيين ومتنمرين، عندما يجدون أن تهديدات ما، تُحدق بثقتهم في أنفسهم.
أن غرس الشعور بـ “التعاطف مع الذات” في نفس المرء، ربما يساعده على تجنب السقوط في شِراك مثل هذه، إذ يُمَكِنّه ذلك من أن يصبح قادرا على النهوض من جديد، بعد إصابته بأي ألم أو مواجهته أي إحراج أو موقف يُشعره بالخجل، وذلك دون أن يحاول الحط من قدر الآخرين أو إذلالهم. ولهذا السبب، يجب اناردد لنفسي هذه العبارات الايجابية .
•أحاول أن أكون محبا لنفسي عندما أشعر بآلام عاطفية
•أحاول أن أرى أن أخطائي تشكل جزءا من الطبيعة البشرية
•عندما يحدث لي شيء مؤلم، أحاول أن أتبنى نظرة متوازنة للموقف
وتضم القائمة أيضا عبارات مثل:
•أرفض عيوبي وأوجه القصور في شخصيتي، وأتبنى رؤية انتقادية إزاءهما
•أنزع للشعور بأنني أكثر عزلة وانفصالا عن العالم، عندما أفكر في ما لديّ من أوجه قصور
•عندما أشعر بالإحباط، أميل إلى أن أكون مهووسا بالتركيز على كل ما هو خطأ، في هذا العالم
وإذا كنت من أولئك الذين يتفقون مع المجموعة الأولى من تلك العبارات، ويختلفون بالتبعية مع المجموعة الثانية منها، فستكون ممن يشعرون بقدر أكبر من “التعاطف مع الذات”.
وتناولت الدراسات النفسية ، كيف يرتبط الإحساس بـ “التعاطف مع الذات”، بالشعور إجمالا بـ “العافية والصحة العقلية”. وجدت الدراسات النفسية أن ثمة علاقة عكسية ، بين تعاطف الفرد مع ذاتة ، وإشارتهم إلى المعاناة من القلق والاكتئاب. واكتشفت كذلك أن هناك ارتباطا طرديا بين “التعاطف مع الذات”، والإحساس بالرضا عن الحياة بشكل عام.
ومن بين النتائج المهمة لهذه الدراسة أيضا، تأكيدها على أن هناك اختلافا بين “التعاطف مع الذات” و”تقدير الذات”، أي أن بوسعك الالتقاء بشخص يشعر بأنه متفوق على الآخرين بشكل عام، لكنه يجد أن من الصعب عليه للغاية، أن يسامح نفسه على الأخطاء التي يرى أنه يرتكبها، في مزيج أبعد ما يكون عن المثالية.
العلاقة بين “التعاطف مع الذات” وتبني سلوكيات صحية، إن من “يتحلون بمستويات أعلى من `التعاطف مع الذات` يكونون أكثر نشاطا بوجه عام”. وتُشبّه دَنْ شعورك بـ “التعاطف مع الذات”، بامتثالك للنصائح التي يُسديها الوالدان حسنا النية لطفلهما من قبيل: “عليك أن تخلد للنوم، لكي يكون بوسعك الاستيقاظ مبكرا، والتعامل (بكفاءة) مع المشكلات التي تواجهك”. فالشخص الذي يتحلى بقدر كبير من “التعاطف مع الذات”، يعلم أن بوسعه التعامل مع نفسه برفق، دون أن يسرف في توجيه الانتقادات لها، وذلك دون أن يغفل في الوقت ذاته، تحديد أي الخيارات أفضل له، على المدى البعيد.
ويشكل ذلك نقطة مهمة، كما يظهر أن بعض من انتقدوا منذ وقت مبكر الدراسات التي أجرتها بشأن “التعاطف مع الذات”، كانوا يتساءلون ما إذا كان شعور مثل هذا، قد يقودك ببساطة، إلى أن تتبنى سلوكا متراخيا، وألا تتمتع بقوة الإرادة على نحو كاف. فبنظر هؤلاء المنتقدين، يتعين عليك ممارسة “النقد الذاتي”، كي يصبح ذلك دافعا لك لإجراء التغييرات المطلوبة والجوهرية في حياتك .
كيفية ممارسة التعاطف الذاتي
هناك مجموعة متنوعة من التمارين المهمة، التي تقترحها الدكتورة نيف يمكن أن تساعدنا على تعلم ممارسة التعاطف الذاتي:
• تخيل كيف تتحدث إلى صديق. يمكننا في كثير من الأحيان أن نقدم الكلمات اللطيفة و ندفع بالأمل و التشجيع للأصدقاء أو الأحباء. و بالتالي عندما تمر بوقت صعب ، خذ لحظة للتفكير في كيفية ردك على صديق مقرب إذا كان يمر بموقف مماثل و تحدث إلى نفسك بنفس الطرقة و نفس المشاعر.
• كن مراقباً. خلال الأوقات التي نشعر فيها بالتحدي أو الصراع العاطفي ، يمكن أن نشعر و كأننا ببساطة نتفاعل، و أننا نحاول البقاء عاطفياً في اللحظة (لحظة الصراع أو التحدي العاطفي). و من خلال الإبطاء لذلك التفاعل، يمكننا اتخاذ خطوة صغيرة إلى الوراء لمراقبة تجربتنا. و بالتالي يمكن أن يساعدنا النظر إلى الصورة الأكبر في الحفاظ على الأمور في نصابها الصحيح، و يساعدنا ايضاً في رؤية المعلومات المهمة التي قد تكون فاتتنا.
• تغيير حديثك الذاتي. لاحظ كيف تتحدث مع نفسك في لحظات تشعر فيها بشعور سلبي. و اعمل على إعادة صياغة عباراتك الذاتية الناقدة بطريقة أكثر إيجابية و أكثر احتضانية. و قد تبدو هذه النبرة الجديدة أشبه بمرشد أو محامي ، بدلاً من ناقدٍ أو قاضٍ.
• احتفظ بمدونة يومية و اكتب ما تواجهه من تحديات. خصص وقتاً كل يوم لكتابة بعض التحديات التي تواجهها. و لاحظ اللحظات التي يميل عقلك فيها للتجول في عبارات نقدية، أو عندما تبدأ بالشعور بالوحدة في تجاربك. و كما هو الحال مع الحديث الذاتي ، أعِد صياغة أي عبارات انتقادية -عن قصد- بنبرة أكثر نعومة و أكثر تفهماً لمعرفة كيف قد تشعر بشكلٍ مختلف.
• كن واضحا بشأن ما تريد. بينما تتدرب على طرق لإعادة صياغة الأفكار الناقدة لتتغذى على الحديث الذاتي ، يمكنك البدء في الكشف عن أدلة حول ما تحتاجه و تريده. خذ لحظة للتفكير فيما تريده أو تحتاجه أو تشتاق إليه في حياتك. و بالتأكيد سيساعدك توضيح هذه الاحتياجات في التركيز على المكان الذي تريد الذهاب إليه، و ما الذي تعمل من أجله. و بالفعل سيساعد ذلك على زيادة الدافعية motivation و السعادة happiness.
• اهتم بنفسك. في بعض الأحيان نعتني بالآخرين و نتجاهل (أو نتجاهل تماماً) الحاجة إلى رعاية أنفسنا. فأنت الآن تدرك تماماً -عند ممارسة التعاطف الذاتي- أنك بحاجة إلى (و تستحق الانخراط) في سلوكيات الرعاية الذاتية تلك. و يمكن أن تساعدك القدرة على تأسيس ممارسات الرعاية الذاتية، في تقليل الرغبة في الانخراط في سلوكيات غير صحية عند مواجهة التحديات و الضغوط.
دمتم بوعي نفسي وصحي وجسدي
أخصائي نفسي
الولاء مكي